الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***
هو عند الشَّافعيِّ وجَماعَةٍ من عُلماء الحِجَاز: ما رَوَى الثِّقة مُخَالفًا لرواية النَّاس، لا أن يروي ما لا يروي غيره، قال الخَليليُّ: والَّذي عليه حُفَّاظ الحديث: أنَّ الشَّاذ ما ليسَ لهُ إسْنادٌ واحدٌ يشذُّ به ثقةٌ أو غيرُهُ، فما كانَ عن غير ثقة فمتروكٌ، وما كانَ عن ثِقة تُوقِّف فيه، ولا يُحتجُّ به، وقال الحاكم: هو ما انفردَ به ثقةٌ وليسَ له أصل بمتابعٍ. النَّوع الثَّالث عشر: الشَّاذ. وهو عند الشَّافعي وجماعة من عُلماء الحجاز ما روى الثِّقة مُخالفًا لرواية النَّاس، لا أن يروي الثِّقة ما لا يروي غيره هو من تتمه كلام الشَّافعي. قال الحافظ أبو يعلى الخليليُّ: والذي عليه حُفَّاظ الحديث أنَّ الشَّاذ ما ليسَ له إلاَّ إسْناد واحد يشذ به ثقة، أو غيره فما كان منه عن غير ثقة فمتروك لا يقبل وما كان عن ثقة توقف فيه ولا يحتج به. فجعل الشَّاذ مُطلق التَّفرد، لا مع اعتبار المُخالفة. وقال الحاكم: هو ما انفردَ به ثقة وليس له أصل بمتابع لذلك الثِّقة. قال: ويُغَاير المُعلَّل بأنَّ ذلك وقف على عِلَّته الدَّالة على جهة الوَهْم فيه، والشَّاذ لم يُوقف فيه على عِلَّة كذلك. فجعلَ الشَّاذ تفرُّد الثِّقة، فهو أخص من قول الخَليلي. قال شيخُ الإسْلام: وبقي من كلام الحاكم: وينقدح في نفس النَّاقد أنَّه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل على هذا، قال: وهذا القيد لا بد منه، قال: وإنَّما يُغاير المعلل من هذه الجهة، قال: وهذا على هذا أدق من المُعلل بكثير، فلا يتمكن من الحُكم به إلاَّ من مارس الفن غاية المُمَارسة، وكان في الذروة من الفهم الثَّاقب، ورُسوخ القدم في الصِّناعة. قلت: ولِعُسْرهِ لم يُفرده أحد بالتصنيف، ومن أوضح أمثلته ما أخرجهُ في «المستدرك» من طريق عُبيد بن غنَّام النَّخْعي، عن علي بن حكيم، عن شَريك، عن عَطَاء بن السَّائب، عن أبي الضُحى، عن ابن عبَّاس قال: في كلِّ أرضٍ نبي كنبيكُم، وآدم كآدم، ونوحٌ كنُوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. وقال: صحيح الإسناد. ولم أزل أتعجَّب من تصحيح الحاكم له، حتَّى رأيتُ البيهقي قال: إسناده صحيح، ولكنَّه شاذ بمرة. ومَا ذكراهُ مُشْكلٌ بأفراد العَدْلِ الضَّابط، كحديث: «إنَّمَا الأعْمَالُ بالنِّيَّات...» والنَّهي عن بَيْعِ الولاء، وغير ذلك مِمَّا في الصَّحيح، فالصَّحيح التَّفصيل: فإن كان بتَفَرُّده مُخَالفًا أحفظ منهُ وأضْبطَ، كان شاذًّا مردودًا. قال المُصنِّف كابن الصَّلاح: وما ذكراه أي الخليلي والحاكم مُشْكلٌ فإنَّه ينتقض بأفراد العدل الضَّابط الحافظ كحديث: «إنَّما الأعمالُ بالنيَّات...» فإنه حديثٌ فردٌ، تفرَّد به عُمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ علقمة عنه، ثمَّ محمَّد بن إبراهيم عن علقمة، ثمَّ عنه يحيى بن سعيد. و كحديث النَّهي عن بيع الولاء وهبته. تفرَّد به عبد الله بن دينار، عن ابن عُمر. وغير ذلك من الأحاديث الأفراد مِمَّا أُخرج في كتابي «الصَّحيح» كحديث مالك، عن الزُّهْري، عن أنس: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم دخلَ مَكَّة وعلى رأسهِ المِغْفر. تفرَّد به مالك عن الزُّهْري. فكل هذه مُخرَّجة في «الصَّحيح» مع أنَّه ليسَ لها إلاَّ إسْنَاد واحد، تفرَّد به ثقة. وقد قال مُسلم: للزُّهْري نحو تسعين حرفًا يرويه، ولا يُشَاركهُ فيه أحد بأسانيد جِيَاد. قال ابن الصَّلاح: فهذا الذي ذكرناه وغيره من مذاهب أئمة الحديث يُبين لك أنَّه ليسَ الأمر في ذلك على الإطلاق الَّذي قالاه، وحينئذ فالصَّحيح التفصيل، فإن كان الثِّقة بتفرده مُخالفًا أحفظ منهُ وأضبط عبارةُ ابن الصَّلاح: لما رواه من هو أولى منهُ بالحفظ لذلك. وعبارةُ شيخ الإسْلام: لمن هو أرجح منه لمزيد ضبط، أو كثرة عدد، أو غير ذلك من وجُوه الترجيحات. كان ما انفردَ به شاذًّا مَرْدُودًا. قال شيخُ الإسْلام: ومُقابله يُقال له: المحفُوظ. قال: مثالهُ ما رواه التِّرمذي والنَّسائي وابن ماجة من طريق ابن عُيينة عن عَمرو بن دينار، عن عَوْسجة، عن ابن عبَّاس: أنَّ رَجُلا توفَّى على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع وارثًا إلاَّ مولى هو أعتقه... الحديث. وتابع ابن عُيينة على وصْلِهِ ابن جُريج وغيره، وخالفهم حمَّاد بن زيد، فرواهُ عن عَمرو بن دينار، عن عَوْسَجة ولم يُذكر ابن عبَّاس. قال أبو حاتم: المَحفُوظ حديث ابن عُيينة. قال شيخُ الإسْلام: فحمَّاد بن زيد من أهل العَدَالة والضَّبط، ومع ذلك رجَّح أبو حاتم رِوَاية من هم أكثر عددًا منه، قال: وعرف من هذا التقرير أنَّ الشَّاذ ما رواه المقبول مُخَالفًا لمن هو أولَى منهُ. قال: وهذا هو المُعتمد في حدِّ الشَّاذ بحسب الاصطلاح. ومن أمثلته في المتن ما رواهُ أبو داود والتِّرمذي من حديث عبد الواحد بن زِيَاد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا: «إذا صَلَّى أحدكُم رَكْعتي الفَجْر، فليَضْطجع عن يَمينهِ». قال البَيْهقي: خالف عبد الواحد العدد الكثير في هذا، فإنَّ النَّاس إنَّما رووه من فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم لا مِنْ قوله، وانفردَ عبد الواحد من بين ثِقَات أصْحَاب الأعمش بهذا اللَّفظ. وإن لم يُخَالف الرَّاوي، فإن كانَ عَدْلاً حافظًا مَوْثوقًا بضبطهِ، كانَ تفرده صحيحًا، وإن لم يُوثق بضبطهِ، ولم يَبْعُد عن درجة الضَّابط كان حَسَنًا، وإنْ بعدَ كانَ شاذًّا منكرًا مردودًا، والحاصل أنَّ الشَّاذ المردود هو الفرد المُخَالف، والفرد الَّذي ليسَ في رُواته من الثِّقة والضَّبط ما يجبرُ به تَفرُّدهُ. وإن لم يُخالف الرَّاوي بتفرده غيرهُ، وإنَّما رَوَى أمرًا لم يروه غيره فينظر في هذا الرَّاوي المنفرد. فإن كان عدلاً حافظًا موثوقًا بضبطه كان تفرده صحيحًا، وإن لم يُوثق بضبطه و لكن لم يبعد عن دَرجة الضَّابط، كان ما انفردَ به حسنًا، وإن بعد من ذلك كان شاذًّا مُنكرًا مردودًا، والحاصل أنَّ الشَّاذ المردود هو الفرد المُخَالف، والفرد الذي ليس في رواته من الثِّقة والضَّبط ما يجبر به تفرده وهو بهذا التَّفسير يُجامع المُنكر، وسيأتي ما فيه.
تنبيه: ما تقدَّم من الاعتراض على الخليلي والحاكم بإفراد الصَّحيح، أوردُ عليه أمران: أحدهما: أنَّهما إنَّما ذكرا تفرد الثِّقة فلا يرد عليهما تفرد الضَّابط الحافظ لِمَا بينهما من الفرق. وأُجيبُ بأنَّهما أطلقَا الثِّقة، فشَملَ الحافظ وغيره. والثَّاني: أنَّ حديث النِّية لم يَنْفرد به عُمر، بل رواهُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أبو سعيد الخُدْري، كما ذكرهُ الدَّارقُطْني وغيره. بل ذكر أبو القاسم بن مَنْده: أنَّه رواه سبعة عشر رجُلاً من الصَّحابة: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقَّاص، وابن مسعود، وابن عُمر، وابن عبَّاس، وأنس بن مالك، وأبو هُرَيْرة، ومُعاوية بن أبي سُفيان، وعُتْبة بن عَبْدٍ السُّلمى، وهلال بن سُويد، وعُبادة بن الصَّامت، وجابر بن عبد الله، وعُقبة بن عَامر، وأبو ذر الغِفَاري، وعُتبة بن الندر، وعُتبة بن مسلم. وزاد غيره: أبا الدَّرداء وسهل بن سعد، والنَّواس بن سمعان، وأبا موسى الأشعري، وصُهيب بن سِنَان، وأبا أُمَامة الباهلي، وزيد بن ثابت، ورافع بن خَدِيج، وصفوان بن أُمية، وغزية بن الحارث- أو الحارث بن غزية – وعائشة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وصفية بنت حُيي. وذكر ابن منده: أنَّه رواه عن عُمر غير علقمة، وعن عَلْقمة غير مُحمَّد، وعن محمَّد غير يحيى. وأنَّ حديث النَّهي عن بَيْع الولاء، رواه غير ابن دينار. فأخرجهُ التِّرمذي في «العلل المفرد»: حدَّثنا محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشَّوارب، حدثنا يحيى بن سُليم، عن عُبيد الله بن عُمر، عن نافع، عن ابن عُمر. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» حدَّثنا عِصْمة البُخَاري، حدثنا إبراهيم بن فهد، حدَّثنا مُسلم، عن مُحمَّد بن دينار، عن يونس- يعني ابن عُبيد- عن نافع، عن ابن عُمر. وأجيب بأنَّ حديث الأعمال لم يصح له طريق غير حديث عُمر، ولم يرد بلفظ حديث عُمر إلاَّ من حديث أبي سعيد، وعلي، وأنس، وأبي هُرَيرة. فأمَّا حديث أبي سعيد فقد صرَّحُوا بتغليط ابن أبي روَّاد الَّذي رواه عن مالك، وممَّن وهَّمه فيه الدَّارقُطْني وغيره. وحديث علي في أربعين علوية بإسناد من أهل البيت، فيه من لا يعرف. وحديث أنس رواهُ ابن عساكر في أوَّل أمَاليه، من رِوَاية يحيى بن سعيد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أنس وقال: غريب جدًّا، والمحفوظ حديث عمر. وحديث أبي هُرَيْرة رواه الرَّشيد العَطَّار في جزء له بسند ضعيف. وسائر أحاديث الصَّحابة المَذْكورين إنَّما هي في مُطْلق النية، كحديث: «يُبْعثون على نِيَّاتهم». وحديث: «ليسَ لهُ من غَزَاته إلاَّ ما نوى». ونحو ذلك. وهكذا يفعل الترمذي في «الجامع» حيثُ يَقُول: وفي البَابِ عن فُلان وفُلان، فإنَّه لا يُريد ذلك الحديث المُعيَّن، بل يُريد أحاديث أُخر يصح أن تُكتب في الباب. قال العِرَاقي: وهو عملٌ صحيح، إلاَّ أنَّ كثيرًا من النَّاس يفهمون من ذلك أنَّ من سُمي من الصحابة يروون ذلك الحديث بعينه، وليس كذلك، بل قد يكون كذلك، وقد يكون حديثا آخر يصح إيراده في ذلك الباب، ولم يصح من طريق عن عُمر إلاَّ الطريق المُتقدمة. قال البزَّار في «مسنده»: لا يصح عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ من حديث عُمر، ولا عن عمر إلاَّ من حديث علقمة، ولا عن علقمة إلاَّ من حديث محمَّد، ولا عن محمد إلاَّ من حديث يحيى. وأمَّا حديث النَّهي، فقال التِّرمذي في «الجامع» و«العلل»: أخطأ فيه يحيى بن سُليم، وعبد الله بن دينار تفرَّد بهذا الحديث عن ابن عُمر. وقال ابن عدي عقب ما أورده: لم أسمعهُ إلاَّ من عصمة، عن إبراهيم بن فهد، وإبراهيم مُظْلم الأمر، له مَنَاكير. نعم حديث المِغْفر لم ينفرد به مالك، بل تابعهُ عن الزُّهْري: ابن أخي الزُّهْري، رواها البزَّار في «مسنده». وأبو أُويس بن أبي عامر، رواها ابن عدي في «الكامل»، وابن سعد في «الطَّبقات». ومَعْمر، رَوَاهَا ابن عَدِي. والأوزاعي، نبَّه عليها المِزِّي في «الأطراف». وعن ابن العَرَبي: أنَّ له ثلاثة عشر طريقًا غير طريق مالك. وقال شيخ الإسْلام: قد جمعتُ طرقه، فوصلت إلى سبعة عشر.
قال الحافظُ البَرْديجي: هو الفَرْدُ الَّذي لا يُعرف متنهُ عن غير رَاويهِ، وكذا أطلقهُ كثيرون، والصَّواب فيه التَّفصيلُ الَّذي تقدَّم في الشَّاذ. النَّوع الرَّابع عشر: معرفة المُنكر قال الحافظ أبو بكر البَرْديجي بفتح المُوحدة، وسُكون الرَّاء، وكسر الدال المُهملة، بعدها تحتية وجيم، نِسْبة إلى برديج قُرب بردعة، بإهمال الدَّال، بأذربيجان ويقال له البردعي أيضًا: هو الحديث الفرد الَّذي لا يُعرف متنهُ عن غير راويه، وكذا أطلقه كثيرون من أهل الحديث. قال ابن الصَّلاح: والصَّواب فيه التفصيل الَّذي تقدَّم في الشاذ وأنَّه بمعناه. قال: وعند هذا نقول: المُنكر قِسْمان على ما ذكرنا في الشَّاذ، فإنَّه بمعناهُ. مثال الأوَّل: وهو المُنفرد المُخَالف لِمَا رواهُ الثِّقَات، رواية مالك، عن الزُّهْري، عن علي بن حُسين، عن عُمر بن عثمان، عن أُسامة بن زيد، عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَرِث المُسْلم الكافر، ولا الكافر المُسْلم». فخالفَ مالك غيره من الثِّقات في قوله: عُمر بن عثمان، بضم العين، وذكر مسلم في «التمييز»: أنَّ كل من رواه من أصحاب الزُّهْري قاله بفتحها، وأنَّ مالكًا وهِمَ في ذلك. قال العِرَاقي: وفي هذا التمثيل نظر، لأنَّ الحديث ليسَ بمنكر، ولم يطلق عليه أحد اسمَ النكارة فيما رأيتُ، وغايتهُ أن يَكُون السند مُنكرًا أو شاذًّا لمُخَالفة الثِّقات لمالك في ذلكَ، ولا يَلْزم من شُذوذ السَّند ونكارته وجود ذلك الوصف في المتن، وقد ذكر ابن الصَّلاح في نوع المُعلَّل: أنَّ العِلَّة الواقعة في السَّند قد تقدح في المتن، وقد لا تقدح، كما سيأتي. قال: فالمثالُ الصَّحيح لهذا القسم ما رواه أصْحَاب السُّنن الأربعة من رِوَاية همَّام بن يحيى، عن ابن جُريج، عن الزُّهْري، عن أنس قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ الخلاء وضعَ خَاتمهُ. قال أبو داود بعد تخريجه: هذا حديث مُنكر، وإنَّما يعرف عن ابن جُريج، عن زياد بن سَعْد، عن الزُّهْري، عن أنس: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم اتَّخذَ خاتمًا من ورق، ثمَّ ألقاهُ، قال: والوَهْم فيه من همَّام، ولم يروه إلا همَّام. وقال النَّسائي بعد تخريجه: هذا حديثٌ غير محفُوظ. فهمَّام بن يحيى ثقة احتجَّ به أهل الصَّحيح، ولكنَّه خالف النَّاس، فروَى عن ابن جُريج هذا المَتْن بهذا السَّند، وإنَّما رَوَى النَّاس عن ابن جُريج الحديث الَّذي أشار إليه أبو داود، فلهذا حكم عليه بالنكارة. ومثالُ الثَّاني: وهو الفرد الَّذي ليسَ في رواته من الثِّقة والإتقان ما يحتمل معه تفرده ما رواه النَّسائي وابن ماجه من رِوَاية أبي زُكَير يحيى بن محمَّد بن قيس، عن هِشَام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا: «كُلُوا البَلَح بالتَّمر، فإنَّ ابن آدم إذا أكلهُ غَضِبَ الشَّيطان...». الحديث، قال النَّسائي: هذا حديث مُنكر. تفرَّد به أبو زُكَير، وهو شيخٌ صالح، أخرج له مسلم في المَُابعات، غير أنَّه لم يبلغ مَبْلغ من يحتمل تفرده، بل قد أطلقَ عليه الأئمة القول بالتَّضعيف، فقال ابن معين: ضعيف، وقال ابن حبان: لا يُحتج به، وقال العُقَيلي: لا يُتَابع على حديثه، وأورد لهُ ابن عدي أربعةُ أحاديث مناكير.
تنبيهات: الأوَّل: قد عُلم مِمَّا تقدم، بل من صريح كلام ابن الصَّلاح: أنَّ الشَّاذ والمنكر بمعنى. وقال شيخ الإسلام: إنَّ الشَّاذ والمُنْكر يجتمعان في اشْتراط المُخَالفة ويَفْترقان في أنَّ الشَّاذ راويه ثقة، أو صدوق، والمُنْكر راويه ضعيف. قال: وقد غفل من سَوَّى بينهما. ثمَّ مثَّل المُنكر بما رواه ابن أبي حاتم، من طريق حُبيِّب- بضم الحاء المُهملة وتشديد التحتية بين موحدتين، أولاهما مفتوحة- ابن حَبيب- بفتح المهملة، بوزن كريم- أخي حمزة الزَّيات، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حُرَيث، عن ابن عبَّاس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أقامَ الصَّلاة، وآتَى الزَّكاة، وحجَّ وصَامَ، وقَرَى الضَّيف دخلَ الجَنَّة». قال أبو حاتم: هو مُنْكر، لأنَّ غيره من الثِّقات رواهُ عن أبي إسْحَاق موقوفًا، وهو المعروف. وحينئذ فالحديث لا مُخَالفة فيه، وراويه مُتَّهم بالكذب، بأن لا يروى إلاَّ من جهتهِ، وهو مُخالف للقواعد المعلومة، أو عرف به في غير الحديث النَّبوي، أو كثير الغلط، أو الفِسْق، أو الغَفْلة يُسمَّى: المتروك وهو نوع مستقل ذكره شيخ الإسلام. كحديث صَدَقة الدَّقيقي، عن فرقد، عن مُرَّة، عن أبي بكر، وحديث عَمرو بن شمر، عن جابر الجُعْفي، عن الحارث، عن علي. الثاني: عِبَارة شيخ الإسْلام في «النخبة»: فإن خُولف الرَّاوي بأرجح يُقَال له: المحفوظ، ومقابله يقال له: الشَّاذ. وإن وقعت المُخَالفة مع الضَّعف، فالرَّاجح يُقال له: المعرُوف، ومُقَابله يُقال له: المُنْكر، وقد علمت من ذلك تفسير المحفُوظ والمعروف، وهُمَا من الأنواع الَّتي أهملها ابن الصَّلاح والمُصنِّف، وحقهما أن يُذكرا، كما ذكر المُتَّصل مع ما يقابله من المُرسل والمنقطع والمُعضل. الثَّالث: وقعَ في عِبَارتهم: أنكر ما رواه فُلان كذا، وإن لم يكن ذلك الحديث ضعيفًا، وقال ابن عَدي: أنكرَ ما روى بُريد بن عبد الله بن أبي بُرْدة: «إذَا أرادَ الله بأمِّة خيرًا قبضَ نبيها قَبْلها». قال: وهذا طريقٌ حسن رُواته ثِقَات، وقد أدخله قومٌ في صِحَاحهم. انتهى. والحديث في «صحيح» مسلم. وقال الَّذهبي: أنكر ما للوليد بن مُسلم من الأحاديث حديث: حفظ القرآن، وهو عند التِّرمذي وحسَّنهُ، وصحَّحه الحاكم على شرط الشَّيخين.
هذه أُمورٌ يتعَرَّفُون بها حَال الحديث. النَّوع الخامس عشر: معرفةُ الاعتبار، والمُتَابعات والشَّوَاهد. هذه أُمور يتداولها أهل الحديث يتعرَّفُونَ بها حال الحديث ينظرون هل تفرَّد به رَاويه أم لا، وهل هو معروف أو لا. فالاعْتبار: أن يأتي إلى حديثٍ لبعض الرُّواة فيعتبرهُ بروايات غيره من الرُّواة، بسبر طُرقِ الحديث، ليُعرف هل شاركه في ذلك الحديث راو غيره، فرَوَاه عن شيخه أولاً؟ فإن لم يكن فينظر هل تابع أحد شيخ شيخه، فرواه عمَّن روى عنه، وهكذا إلى آخر الإسْنَاد، وذلكَ المُتَابعة، فإن لم يكن فيُنظر هل أتَى بمعناه حديث آخر، وهو الشَّاهد، فإن لم يَكُن فالحديث فردٌ، فليسَ الاعتبار قسيما للمُتابع والشَّاهد، بل هو هيئة التوصل إليهما. فمثالُ الاعْتبار: أن يَرْوي حمَّاد مثلاً حديثًا لا يُتَابع عليه، عن أيُّوب عن ابن سيرين عن أبي هُرَيْرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فيُنْظر هل رواهُ ثقةٌ غير أيُّوب عن ابن سِيرين، فإن لم يُوجد، فغيرُ ابن سِيرين عن أبي هُرَيْرة، وإلاَّ فصَحَابي غير أبي هُرَيْرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأي ذلكَ وُجِدَ عُلِمَ أنَّ لهُ أصْلاً يُرجع إليه، وإلاَّ فلا. فمثالُ الاعتبار: أن يروي حمَّاد بن سلمة مثلاً حديثًا لا يُتَابع عليه، عن أيُّوب عن ابن سيرين عن أبي هُرَيْرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فيُنظر هل رواهُ ثقة غير أيُّوب عن ابن سيرين، فإن لم يُوجد ثقة غيره فغير ابن سيرين عن أبي هُرَيْرة، وإلاَّ أي وإن لم يوجد ثقة عن أبي هُرَيْرة غيره فصحابي غير أبي هُرَيْرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأي ذلك وجد عُلم به أنَّ له أصلاً يرجع إليه، وإلاَّ أي وإن لم يوجد شيء من ذلك فلا أصل له. كالحديث الذي رواه التِّرمذي من طريق حمَّاد بن سلمة، عن أيُّوب، عن ابن سيرين، عن أبي هُرَيْرة، أراه رفعهُ: «أحْبِبْ حبيبكَ هَوْنًا ما...» الحديث، قال التِّرمذي: غريبٌ لا نعرفهُ بهذا الإسْنَاد إلاَّ من هذا الوجه. أي من وجه يَثْبت، وإلاَّ فقد رواهُ الحسن بن دِينَار عن ابن سيرين، والحسن مترُوك الحديث لا يصلح للمُتَابعات. والمُتَابعةُ: أن يَرْويهُ عن أيُّوب غير حمَّاد، وهي المُتَابعة التَّامة، أو عن ابن سيرين غير أيُّوب، أو عن أبي هُرَيْرة غير ابن سيرين، أو عن النَّبي صلى الله عليه وسلم صحابي آخر، فكلُّ هذا يُسمَّى مُتَابعة، وتَقْصُر عن الأولى بِحَسب بُعْدها منها، وتُسمَّى المتابعة شاهدًا. والشَّاهد: أن يروى حديث آخر بمعناهُ، ولا يُسمَّى هذا مُتَابعة. والمُتابعةُ: أن يرويه عن أيُّوب غير حمَّاد، وهي المُتَابعة التَّامة، أو لم يروه عنه غيره، ورواهُ عن ابن سيرين غير أيُّوب، أو عن أبي هُرَيْرة غير ابن سيرين، أو عن النَّبي صلى الله عليه وسلم صحابي آخر غير أبي هُرَيْرة فكل هذا يُسمَّى مُتابعة، وتقصر عن المُتابعة الأولى بحسب بُعدها منها أي بقدره وتسمَّى المُتَابعة شاهدًا أيضًا. والشَّاهد: أن يروى حديث آخر بمعناه، ولا يُسمَّى هذا مُتابعة فقد حصل اختصاص المُتابعة بما كان باللفظ، سواء كان من رواية ذلك الصَّحابي أم لا، والشَّاهد أعم، وقيلَ هو مخصوصٌ بما كان بالمعنى كذلك. وقال شيخ الإسلام: قد يُسمَّى الشَّاهد متابعة أيضًا، والأمر سهل، مثالُ ما اجتمع فيه المُتَابعة التَّامة والقاصرة، والشَّاهد ما رواهُ الشَّافعي في «الأم» عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عُمر، أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشَّهر تِسْعٌ وعشرون، فلا تَصُومُوا حتَّى تَرُوا الهِلاَل، ولا تُفطرُوا حتَّى تروهُ، فإن غُم عليكُم فأكملُوا العِدَّة ثلاثين». فهذا الحديث بهذا اللَّفظ، ظنَّ قومٌ أنَّ الشَّافعي تفرَّد به عن مالك، فعدُّوه في غرائبه، لأنَّ أصحاب مالك رَووهُ عنه بهذا الإسناد بلفظ: «فإن غُمَّ عليكُم فاقدرُوا لهُ». لكن وجدنا للشَّافعي مُتابعًا، وهو عبد الله بن مَسْلمة القَعْنَبي، كذلك أخرجه البُخَاري عنه عن مالك، وهذه مُتابعة تامة. ووجدنا له مُتَابعة قاصرة في «صحيح» ابن خزيمة من رواية عاصم بن محمَّد، عن أبيه محمَّد بن زيد، عن جدِّه عبد الله بن عُمر: «فأكملُوا ثلاثين». وفي «صحيح» مسلم من رِوَاية عُبيد الله بن عُمر، عن نافع، عن ابن عُمر بلفظ: «فاقدُروا ثلاثين». ووجدنا له شاهدًا رواه النَّسائي من رواية محمد بن حُنينٍ، عن ابن عبَّاس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثل حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عُمر بلفظه سَوَاء. ورواه البُخَاري من رواية محمد بن زياد، عن أبي هُرَيْرة بلفظ: «فإن غُبِّيَ عليكُم، فأكملُوا عِدَّة شَعْبان ثلاثين». وذلكَ شاذ بالمَعْنى. وإذا قَالُوا في مِثْله: تفرَّد به أبو هُرَيْرة، أو ابن سِيرين، أو أيُّوب، أو حمَّاد، كان مُشْعرًا بانتفاء المُتَابعات، وإذا انْتَفت مع الشَّواهد فحُكْمهُ ما سبقَ في الشَّاذ، ويدخل في المُتَابعة والاسْتِشْهَاد رواية من لا يُحتجُّ به، ولا يصلح لذلك كلُّ ضعيفٍ. وإذا قَالُوا في مثله أي: الحديث تفرَّد به أبو هُرَيْرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أو ابن سيرين عن أبي هُرَيْرة أو أيُّوب عن ابن سيرين أو حماد عن أيُّوب كان مُشْعرًا بانتفاء وجوه المتابعات فيه وإذا انتفت المُتَابعات مع الشَّواهد فحُكمه ما سبقَ في الشَّاذ من التفصيل. ويدخل في المُتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتجُّ به، ولا يصلح لذلك كل ضعيف كما سيأتي في ألفاظ الجرح والتعديل.
وهو فنٌّ لطيفٌ تُسْتَحسنُ العِنَايةُ بهِ، ومذهبُ الجمهُور من الفُقَهاء والمُحدِّثين قَبُولها مُطْلقًا، وقيلَ: لا تقبلُ مُطْلقًا، وقيلَ: تُقبل إن زَادهَا غير من رواهُ نَاقصًا، ولا تُقبل مِمَّن رواهُ مَرَّة نَاقصًا. النَّوع السَّادس عشر: معرفةُ زيادات الثِّقَات وحُكمها. وهو فنٌ لطيف تُستحسن العِنَاية به وقد اشتهر بمعرفة ذلك جماعة، كأبي بكر عبد الله بن محمَّد بن زياد النَيْسابوري، وأبي الوليد حَسَّان بن محمَّد القُرَشي وغيرهما. ومذهب الجمهُور من الفُقهاء والمُحدِّثين قَبُولها مُطْلقًا سواء وقعت مِمَّن رواهُ أولاً نَاقصًا، أم من غيره، سَوَاء تعلَّق بها حكم شَرْعي أم لا، وسواء غيَّرت الحُكْم الثَّابت أم لا، وسواء أوجبت نقض أحكام ثبتت بخبر ليست هي فيه أم لا، وقد ادَّعى ابن طاهر الاتِّفاق على هذا القول. وقيل: لا تُقبل مُطلقًا لا مِمَّن رواه نَاقصًا، ولا من غيره. وقيل: تُقبل إن زادها غير من رواه نَاقصًا، ولا تُقبل مِمَّن رواه مرَّة نَاقصًا. وقال ابن الصبَّاغ فيه: إن ذكر أنَّه سمع كل واحد من الخبرين في مجلسين، قُبلت الزِّيادة، وكانا خبرين يُعمل بهما، وإن عَزَى ذلك إلى مجلس واحد وقال: كنتُ أُنسيت هذه الزِّيادة، قُبلَ منه، وإلاَّ وجب التوقُّف فيها. وقال في «المحصول» فيه: العبرة لما روى منه أكثر، فإن استوى قُبلت منه. وقيل: إن كانت الزِّيادة مُغَيِّرة للإعراب، كان الخَبَران مُتعارضين، وإلاَّ قُبلت، حَكَاه ابن الصبَّاغ عن المُتكلِّمين، والصَّفي الهِنْدي عن الأكثرين، كأن يروى: في أربعين شاة، ثمَّ: في أربعين نصفُ شاة. وقيل: تُقبل إن غيَّرت الإعراب مُطلقًا. وقيل: لا تقبل إلاَّ إن أفادت حُكمًا. وقيل: تُقبل في اللَّفظ دون المعنى. حكاهما الخطيب. وقال ابن الصباغ: إن زادها واحد، وكان من رواها ناقصًا جماعة، لا يجُوز عليهم الوهم، سقطت. وعبارة غيره: لا يَغْفُل مثلهم عن مثلها عادة. وقال ابن السَّمعاني مثله وزاد: أن يكون مِمَّا تتوفر الدَّواعي على نقله. وقال الصَّيرفي والخطيب: يُشترط في قَبُولها كون من رواهَا حَافظًا. وقال شيخ الإسلام: اشْتُهرَ عن جمع من العُلماء القَوْل بقبُول الزِّيادة مُطْلقًا من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المُحدِّثين الَّذين يَشْترطُون في الصَّحيح والحسن أن لا يَكُون شاذًّا، ثمَّ يُفَسِّرون الشُّذوذ بمخالفة الثِّقة من هو أوثق منهُ، والمَنْقُول عن أئمة الحديث المُتقدِّمين، كابن مهدي، ويحيى القَطَّان، وأحمد، وابن معين، وابن المَدِيني، والبخاري، وأبي زُرْعة، وأبي حاتم، والنَّسائي، والدَّارقُطْني، وغيرهم: اعتبار التَّرجيح فيما يتعلَّق بالزِّيادة المُنَافية، بحيث يلزم من قَبُولها رد الرِّواية الأُخرى. انتهى. وقسمهُ الشَّيخ أقْسَامًا: أحدُها: زيادةٌ تُخَالف الثِّقات، فترد كما سَبقَ. الثَّاني: مَا لا مُخَالفة فيه، كتفرُّد ثقة بجُملة حديث فيُقْبل، قال الخَطِيب: باتِّفاق العُلماء. الثَّالث: زيادةُ لَفْظة في حديث لم يذكرهَا سَائر رُواته، كحديث: «جُعلت ليَ الأرضُ مَسْجدًا وطَهُورًا». انفرد أبو مالك الأشْجَعي فقال: «وتُرْبتها طَهُورًا». فهذا يُشْبهُ الأوَّل، ويُشبه الثَّاني، كذا قال الشَّيخ، والصَّحيح قَبُول هذا الأخير، ومثَّله الشَّيخ أيضًا بزيادةِ مالك في حديث الفِطْر: «من المُسْلمين» ولا يصح التَّمثيل به، فقد وافقَ مَالكًا عُمر بن نافع، والضحَّاك بن عُثمان. وقد تنبَّه لذلكَ ابن الصَّلاح، وتبعهُ المُصنِّف حيث قال: وقسمه الشَّيخ أقْسامًا: أحدها: زيادةٌ تُخَالف الثِّقات فيما رَووه فتُرد كمَا سبقَ في نوع الشَّاذ. الثَّاني: مَا لا مُخَالفة فيه لِمَا رواه الغير أصلا كتفرُّد ثقة بجملة حديث لا تعرض فيه لما رواه الغير بمخالفة أصلا فيقبل، قال الخطيب: باتِّفاق العُلماء أسندهُ إليه ليَبْرأ من عُهْدته. الثَّالث: زيادةُ لفظةٍ في حديث لم يذكرها سائر رُواته وهذه مَرْتبة بين تلك المرتبتين كحديث حذيفة «جُعلت لي الأرضُ مَسْجدًا وطَهُورًا». انفرد أبو مالك سعد بن طارق الأشْجَعي فقال: «و جُعلت تُرْبتها لنَا طَهُورًا» وسائر الرُّواة لم يذكرُوا ذلك فهذا يُشْبه الأوَّل. والمَرْدُود من حيث أنَّ ما رواهُ الجَمَاعة عام، وما رواه المُتفرِّد المردود بالزِّيادة مخصوص، وفي ذلك مُغَايرة في الصِّفةِ، ونوع من المُخَالفة يختلف به الحُكم ويُشبه الثَّاني المَقْبُول من حيث إنَّه لا مُنَافاة بينهما كذا قال الشَّيخ ابن الصَّلاح. قال المُصنِّف: والصَّحيح قَبُول هذا الأخير. قال: ومثَّله الشَّيخ أيضًا بزيادة مالك في حديث الفِطْر: «من المُسلمين». ونُقل عن التِّرمذي أنَّ مالكًا تفرَّد بها، وأنَّ عُبيد الله بن عُمر وأيُّوب وغيرهما رووا الحديث عن نافع عن ابن عُمر بدون ذلك. قال المُصنِّف: ولا يصح التمثيل به، فقد وافقَ مالكًا عليها جَماعة من الثِّقات منهم عُمر بن نافع ورِوَايته عند البُخَاري في «صحيحه» والضحَّاك بن عُثمان وروايته عن مُسْلم في «صحيحه». قال العِرَاقي: وكثير بن فَرْقد ورِوَايته في «مستدرك» الحاكم و«سُنن» الدَّارقُطْني، ويُونس بن يزيد في «بيان المُشْكل» للطَّحاوي، والمُعلَّى بن إسْمَاعيل في «صحيح» ابن حبِّان، وعبد الله بن عُمر العُمَري في «سنن» الدَّارقُطْني. قيل: وزيادة التُّربة في الحديث السَّابق يحتمل أن يُرَاد بها الأرض من حيث هي أرض، لا التراب، فلا يبقى فيه زيادة، ولا مُخَالفة لمن أطلق. وأُجيب: بأنَّ في بعض طُرقه التَّصريح بالتراب، ثمَّ إن عدَّها زيادة بالنسبة إلى حديث حُذيفة، وإلاَّ فقد وردت في حديث علي، رواه أحمد والبَيْهقي بسند حسن.
فائدة: من أمثلة هذا الباب حديث الشَّيخين عن ابن مسعود: سَألتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفْضل؟ قال: «الصَّلاةُ لِوَقْتها». وزاد الحسن بن مكرم وبُندار في روايتهما: «في أوَّل وقتها» صحَّحها الحاكم وابن حبَّان. وحديث الشَّيخين: عن أنس: أُمِرَ بلال أن يَشْفع الأذان، ويُوتر الإقَامة. زاد سِمَاك بن عَطِية: إلاَّ الإقَامة. وصحَّحها الحاكم وابن حبَّان. وحديث علي: «إنَّ العين وكاء السَّه». زاد إبراهيم بن موسى: «فمن نامَ فليتوضَّأ».
تقدَّم مَقْصُوده، فالفردُ قِسْمان: أحدُهُما: فردٌ عن جميع الرُّواة وتقدَّم. والثَّاني: بالنِّسبة إلى جهةٍ، كقولهم: تفرَّد به أهل مكَّة والشَّام، أو فلانٌ عن فلانٌ، أو أهل البَصْرة عن أهل الكُوفة وشبهه، ولا يَقْتضي هذا ضعفهُ إلاَّ أن يُرَاد بتفرُّد المَدَنيين انفراد واحدٍ منهُم، فيكُون كالقِسْم الأوَّل. النَّوع السَّابع عشر: مَعْرفة الأفراد. تقدَّم مقصوده في الأنواع الَّتي قبله، قال ابن الصَّلاح: لكن أفردتهُ بترجمة، كما أفردهُ الحاكم ولما بقي منه. فالفرد قِسْمان : أحدهُما: فرد مُطلق تفرَّد به واحد عن جميع الرُّواة، و قد تقدَّم حُكمه. والثَّاني : فردٌ نِسْبي بالنسبة إلى جهة خاصة كقولهم: تفرَّد به أهل مكَّة والشَّام أو البَصْرة، أو الكُوفة، أو خُراسان أو تفرَّد به فُلان عن فُلان وإن كان مرويًا من وجوه عن غيره أو أهل البصرة عن أهل الكُوفة أو الخُرَاسانيون عن المَكِّيين وشبهه، ولا يقتضي هذا ضعفه من حيث كَوْنه فردًا إلاَّ أن يُراد بتفرُّد المدنيين مثلاً انفراد واحد منهم تجُوزًا، أو يُقال: لم يروه ثقة إلاَّ فُلان فيكُون حُكمه كالقسم الأوَّل فينظر في المُنْفرد به هل بلغ رُتبة من يُحتج بتفرده أو لا، وفي غير الثِّقة هل بلغ رتبة من يعتبر بحديثه أو لا. مثالُ ما انفردَ به أهل بلد: ما رواه أبو داود عن أبي الوليد الطَّيالسي، عن همَّام، عن قتادة، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد قال: أُمِرْنَا أن نَقْرأ بِفَاتحة الكِتَاب وما تيسَّر. قال الحاكم: تفرَّد بذكر الأمر فيه أهل البَصْرة من أوَّل الإسْنَاد إلى آخره، ولم يُشْركهم في هذا اللَّفظ سواهم. وما رواه مسلم من حديث عبد الله بن زيد، في صِفَة وضُوء رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ومسح رأسهُ بماء غير فضل يديه. قال الحاكم: هذه سُنَّة غريبة، تفرَّد بها أهل مِصْر، ولم يُشَاركهم فيها أحد. وما رواهُ أيضًا من حديث الضحَّاك بن عُثمان، عن أبي النَّضر، عن أبي سَلمة بن عبد الرَّحمن، عن عائشة قالت: صلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم على سُهَيل بن بَيْضَاء وأخيه في المَسْجد. قال الحاكم: تفرَّد به أهل المَدِينة. وما رواهُ أحمد من حديث إسماعيل بن عبد الملك المَكِّي، عن عبد الله بن أبي مُليكة، عن عَائشة: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خرجَ من عِنْدها فقالت: يا رَسُول الله خرجتَ من عندي وأنتَ طيِّب النَّفس، ثمَّ رجعتَ إليَّ حزينًا؟ فقال: «إنِّي دخلتُ الكَعْبة، ووددتُ أنِّي لم أكُن دخَلُتها، أو أكُونَ أتعبتُ أمَّتي». قال الحاكم: تفرَّد به أهل مكَّة. ومثالُ ما تفرَّد به فلانٌ عن فُلان: ما رواه أصحاب السُّنن الأربعة من طريق سُفيان بن عُيينة، عن وائل بن داود، عن ابنه بكر بن وائل، عن الزُّهْري، عن أنس: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أوْلَمَ على صفية بِسَويق وتمر. قال ابن طاهر: تفرَّد به وائل عن ابنه، ولم يروه عنه غير سُفيان، وقد رواهُ محمد بن الصَّلت التَّوَّزي عن ابن عُيينة عن زياد بن سَعْد عن الزُّهْري، ورواه جماعة عن سُفيان عن الزُّهْري بلا واسطة. ومثالُ ما تفرَّد به أهل بلد عن أهل بلد، والمراد تفرَّد واحد منهم: حديث النسائي: «كُلُوا البلح بالَّتمر». قال الحاكم: هو من أفْراد البَصْريين عن المَدَنيين، تفرَّد به أبو زُكَير، عن هِشَام. ومثالُ ما تفرَّد به ثقة: حديث مُسلم وغيره: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يَقْرأ في الأضْحَى والفِطْر بـ {قَ} و{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. تفرَّد به ضَمْرة بن سعيد، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن أبي واقد اللَّيثي، ولم يروه أحد من الثِّقات غير ضَمْرة، ورواه من غيرهم ابن لَهيعة، وهو ضعيفٌ عند الجمهُور، عن خالد بن يزيد عن الزُّهْري عن عروة عن عائشة.
فائدة: صنَّف الدَّارقُطْني في هذا النَّوع كتابًا حافلاً، وفي معاجم الطَّبراني أمثلة كثيرة لذلك.
ويُسمُّونه المَعْلُول- وهو لحنٌ- وهذا النَّوع من أجَلِّها يتمكَّن منهُ أهل الحِفْظ والخِبْرة والفَهْمِ الثَّاقب. النَّوع الثامن عشر: المُعلَّل. ويُسمُّونه المعلُول كذا وقع في عِبَارة البُخَاري والتِّرمذي والحاكم والدَّارقطني وغيرهم وهو لحنٌ لأنَّ اسم المفعول من أعل الرباعي لا يأتي على مفعول، بل والأجود فيه مُعَل بلام واحدة، لأنَّه مفعول أعل قياسًا، وأمَّا المُعلَّل فمفعول علَّل، وهو لُغة بمعنى ألهَاه بالشَّيء وشَغلهُ، وليسَ هذا الفعل بمُستعمل في كلامهم. وهذا النَّوع من أجَلِّها أي أجل أنواع عُلوم الحديث وأشْرَفها وأدقها، وإنَّما يتمكَّن منهُ أهل الحفظ والخِبْرة والفهم الثَّاقب ولهذا لم يتكلَّم فيه إلاَّ القليل، كابن المَدِيني، وأحمد، والبُخَاري، ويعقُوب بن شَيْبة، وأبي حاتم، وأبي زُرْعة، والدَّارقُطْني. قال الحاكم: وإنَّما يُعلَّل الحديث من أوجه ليسَ للجرح فيها مَدْخل، والحُجَّة في التَّعليل عندنَا بالحفظ والفَهْمِ والمَعْرفة لا غير. وقال ابن مَهْدي: لأن أعرف عِلَّة حديث، أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثًا ليسَ عندي. والعِلَّةُ عِبَارةٌ عن سببٍ غامض قادحٍ، مع أنَّ الظَّاهر السَّلامة منهُ، ويتطرَّق إلى الإسْنَاد الجامع شُروط الصِّحَّة ظَاهرًا، وتُدْرك بتفرُّد الرَّاوي، وبمُخَالفة غيره لهُ، مع قرائن تُنبَّه العَارف على وهْمٍ بإرْسَالٍ، أو وقف أو دُخُول حديثٍ في حديثٍ أو غير ذلك، بحيث يَغْلبُ على ظنِّه فيُحْكم بعدم صِحَّة الحديث أو يتردَّد فيتوقَّف. والعِلَّة عِبَارة عن سبب غامض خفي قادح في الحديث مع أنَّ الظَّاهر السَّلامة منه. قال ابن الصَّلاح: فالحديث المُعلَّل ما اطُّلِع فيه على عِلَّة تقدح في صِحَّته مع ظُهور السَّلامة. ويتطرَّق إلى الإسْنَاد الجَامع شُروط الصحَّة ظَاهرًا، وتُدْرك العلة بتفرُّد الرَّاوي وبمُخَالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تُنبِّه العارف بهذا الشَّأن على وهم وقع بإرْسَالٍ في الموصول أو وقف في المرفوع أو دُخُول حديث في حديث، أو غير ذلك، بحيث يَغْلُب على ظنِّه فيُحكم بعدم صِحَّة الحديث أو يتردَّد فيتوقَّف فيه وربَّما تَقْصر عِبَارة المُعلَّل عن إقامة الحُجَّة على دعواه، كالصَّيرفي في نقد الدِّينار والدرهم. قال ابن مهدي: معرفة عِلَّة الحديث إلهام، لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أينَ قلتَ هذا؟ لم يكن له حُجَّة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك. وقيل له أيضًا: إنَّك تقول للشيء: هذا صحيح، وهذا لم يثبت، فعَمَّن تقول ذلك؟ فقال: أرأيتَ لو أتيتَ النَّاقد فأريته دراهمكَ، فقال: هذا جيد، وهذا بهرج، أكنتَ تسأل عَمَّن ذلكَ، أو تُسلم لهُ الأمر؟ قال: بل أُسلم له الأمر. قال: فهذا كذلك بطُول المُجَالسة والمُنَاظرة والخِبْرة. وسُئل أبو زُرْعة: ما الحُجَّة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحُجَّة أن تسألني عن حديث له عِلَّة، فأذكر عِلَّته، ثمَّ تقصد ابن وَارة فتسأله عنه، فيذكر عِلَّته، ثمَّ تقصد أبا حاتم فيُعلله، ثمَّ تُميِّز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننَا خِلافًا فاعْلم أنَّ كلا مِنَّا تكلَّم على مُراده، وإن وجدت الكلمة مُتفقة، فاعلم حقيقة هذا العِلْم، ففعل الرَّجُل ذلكَ، فاتَّفقت كلمتهم، فقال: أشهدُ أنَّ هذا العلم إلهامٌ. والطَّريقُ إلى مَعْرفتهِ جَمْعُ طُرق الحديث، والنَّظر في اخْتلاف رُواته وضَبْطهم وإتقانهم، وكَثُرَ التَّعليلُ بالإرسال، بأن يكُون راويه أقْوَى مِمَّن وصلَ، وتقع العِلَّة في الإسْنَاد وهو الأكْثر، وقد تقع في المَتْن، وما وقعَ في الإسْنَاد قد يَقْدح فيه، وفي المَتْن أيضًا. والطَّريق إلى مَعْرفته جمع طرق الحديث، والنَّظر في اختلاف رواته و في ضَبْطهم وإتْقَانهم. قال ابن المَدِيني: الباب إذَا لم تَجْمع طُرقهُ لم يتبيَّن خَطُؤه. وكثُرَ التَّعليل بالإرْسَال للموصول بأن يَكُون راويه أقوى مِمَّن وصل، وتقع العِلَّة في الإسْنَاد وهو الأكثر، وقد تقع في المتن وما وقع منها في الإسْنَاد قد يَقْدح فيه وفي المَتْن أيضًا. كالإرْسَال والوَقْف، وقَدْ يَقْدح في الإسْنَاد خاصَّة، ويَكُون المَتْن معرُوفًا صَحِيحًا، كحديث يعلى بن عُبيد، عن الثَّوري، عن عَمرو بن دينار، حَدِيث: «البَيِّعان بالخِيَار...» غلطَ يعلى، إنَّما هو عبد الله بن دِينَار. كالإرْسَال والوَقْف، وقد يقدح في الإسْنَاد خاصة، ويكون المَتْن معروفًا صحيحًا، كحديث يَعْلى بن عُبيد الطنافسي أحد رجال الصَّحيح عن سُفيان الثَّوري، عن عَمرو بن دينار عن ابن عُمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم حديث: «البَيِّعان بالخِيَار...» غلط يعلى عن سُفيان في قوله: عَمرو بن دينار إنَّما هو عبد الله بن دينار هكذا رَواهُ الأئمة من أصْحَاب سُفيان، كأبي نُعيم الفَضْل بن دُكين، ومحمَّد بن يوسف الفِرْيابي، ومخلد بن يزيد وغيرهم. ومثالُ العِلَّة في المَتْن: ما انفردَ به مسلم في «صحيحه» من رِوَاية الوليد بن مسلم، حدَّثنا الأوزاعي، عن قتادة: أنَّه كتب إليه يُخبرهُ عن أنس بن مالك، أنَّه حدَّثه قال: صليتُ خلفَ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبي بَكْر وعُمر وعُثمان، فكَانُوا يَسْتفتحون بالحمدِ لله ربِّ العالمين، لا يذكُرون بِسْم الله الرَّحمن الرحيم في أوَّل قِرَاءةٍ ولا في آخرها. ثمَّ رواه من رِوَاية الوليد عن الأوزاعي: أخبرني إسْحَاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنَّه سمع أنسا يذكر ذلك. وروى مالك في «المُوطأ» عن حُميد، عن أنس قال: صلَّيتُ وراء أبي بَكْر وعُمر وعُثمان، فكُلهم كان لا يَقْرأ بِسْم الله الرَّحمن الرَّحيم. وزاد فيه الوليد بن مُسلم عن مالك: صَلَّيتُ خلفَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. هذا الحديث مَعْلُول، أعلَّهُ الحفَّاظ بوجُوه جمعتها وحررتها في المجلس الرَّابع والعشرين من الأمالي بما لم أُسْبق إليه، وأنا ألخصها هنا: فأمَّا رواية حُميد، فأعلَّها الشَّافعي بمُخالفة الحُفَّاظ مالكًا، فقال في «سنن» حرملة، فيما نقله عن البَيْهقي: فإن قال قائل: قد رَوَى مالك... فذكرهُ، قيل له: خالفهُ سُفيان بن عُيينة، والفَزَاري، والثَّقفي، وعدد لقيتهم سبعة أو ثمانية متفقين مُخَالفين له، والعدد الكثير أوْلَى بالحفظ من واحد، ثمَّ رجَّح روايتهم بما رواه عن سُفيان، عن أيُّوب، عن قتادة، عن أنس قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعُمر يَفْتَتحُونَ القِرَاءة بالحمد لله ربِّ العَالمين. قال الشَّافعي: يعني يبدؤون بقرأة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، ولا يعني أنَّهم يتركُون بسم الله الرَّحمن الرَّحيم. قال الدَّارقُطْني: وهذا هو المحفُوظ عن قتادة وغيره عن أنس. قال البَيْهقي: وكذا رواه عن قتادة أكثر أصْحَابه، كأيُّوب، وشُعبة، والدَّستوائي وشَيْبان بن عبد الرَّحمن، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وأبي عَوَانة وغيرهم. قال ابن عبد البر: فهؤلاء حُفَّاظ أصْحَاب قتادة، وليس في روايتهم لهذا الحديث ما يُوجب سُقوط البَسْملة، وهذا هو اللفظ المُتفق عليه في «الصَّحيحين» وهو رِوَاية الأكثرين، ورواهُ كذلك أيضًا عن أنس ثابت البُنَاني، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وما أوله عليه، ورواه الشَّافعي مُصَرَّح به في رِوَاية الدَّارقُطْني بسند صحيح: فكانوا يَسْتفتحُونَ بأمِّ القُرآن. قال ابن عبد البر: ويقولُون: إنَّ أكثر رواية حُميد عن أنس إنَّما سمعها من قتادة وثابت عن أنس، ويُؤيد ذلك أنَّ ابن عدي صرَّح بذكر قتادة بينهما في هذا الحديث، فتبين انقطاعها ورجُوع الطريقين إلى واحدة. وأمَّا رِوَاية الأوزاعي فأعَلَّها بعضهم بأنَّ الرَّاوي عنه وهو الوليد يُدلِّس تدليس التسوية، وإن كان قد صرَّح بسماعه من شيخه، وإن ثبت أنَّه لم يسقط بين الأوزاعي وقتادة أحد، فقتادة ولد أكمه، فلا بد أن يَكُون أمْلَى على من كتب إلى الأوزاعي، ولم يُسم هذا الكاتب فيُحتمل أن يكُون مجروحًا، أو غير ضابط، فلا تقوم به الحُجَّة مع ما في أصل الرِّواية بالكتابة من الخلاف، وأنَّ بعضهم يرى انقطاعها. وقال ابن عبد البر: اختلف في ألفاظ هذا الحديث اختلافًا كثيرًا متدافعًا مضطربا: منهم من يقول: صليتُ خلف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعُمر. ومنهم من يذكُر عُثمان. ومنهم من يقتصر على أبي بكر وعُمر وعثمان. ومنهم من لا يذكر: فكانوا لا يقرؤون بسم الله الرَّحمن الرَّحيم. ومنهم من قال: فكانوا لا يَجْهرُون ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم. ومنهم من قال: فكانوا يَجْهرُون ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم. ومنهم من قال: فكانوا يفتتحون القِرَاءة بالحمد لله ربِّ العالمين. ومنهم من قال: فكانوا يقرؤون بسم الله الرَّحمن الرَّحيم. قال: وهذا اضطراب لا تَقُوم معه حُجَّة لأحد، ومِمَّا يدل على أنَّ أنسًا لم يُرد نفي البَسْملة، وأنَّ الذي زاد ذلكَ في آخر الحديث روى بالمعنى فأخطأ، ما صحَّ عنه أنَّ أبا مَسْلمة سألهُ: أكان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله ربِّ العالمين، أو ببسم الله الرَّحمن الرحيم؟ فقال: إنَّك سألتني عن شيء ما أحفظهُ، وما سَألني عنه أحد قبلك. أخرجه أحمد وابن خزيمة بسندٍ على شَرْط الشَّيخين. وما قيلَ: من أنَّ من حفظ عنه حُجَّة على من سألهُ في حال نِسْيانه. فقد أجاب أبو شَامة بأنَّهما مسألتان، فسُؤال أبي سلمة عن البَسْملة وتركها، وسُؤال قتادة عن الاستفتاح بأي سُورة. وقد وردَ من طريق آخر عنه: كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُسر ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم. أخرجه الطبراني من طريق مُعتمر بن سُليمان، عن أبيه، عن الحسن عنه. وابن خزيمة من طريق سُويد بن عبد العزيز، عن عمران القَصِير، عن الحسن عنه. وورد من طريق آخر عن المعتمر بن سُليمان عن أبيه، عن أنس قال: كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم. رواه الدَّارقُطْني والخطيب. وأخرجه الحاكم من جهة أُخرى عن المُعْتمر. وقد ورد ثُبوت قراءتها في الصَّلاة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هُرَيْرة من طُرق عند الحاكم، وابن خزيمة، والنَّسائي، والدَّارقطني، والبيهقي، والخطيب. وابن عبَّاس عند الترمذي والحاكم والبَيْهقي. وعثمان، وعلي، وعمَّار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، والنُّعْمَان بن بشير، وابن عُمر، والحكم بن عُمير، وعائشة، وأحاديثهم عند الدَّارقُطْني. وسَمُرة بن جُنْدب، وأُبَي، وحديثهما عند البَيْهقي. وبُرَيدة، ومُجَالد بن ثور، وبُسْر أو بِشْر بن معاوية، وحُسين بن عرفطة، وأحاديثهم عند الخطيب. وأم سلمة عند الحاكم. وجماعة من المهاجرين والأنصار عند الشَّافعي. فقد بلغ ذلك مبلغ التواتر، وقد بيَّنا طُرق هذه الأحاديث كلها في كتاب «قطف الأزْهَار المُتناثرة في الأخبار المُتواترة» وتبين بما ذكرناهُ أنَّ لحديث مُسلم السَّابق تسع علل: المُخَالفة من الحُفَّاظ والأكثرين. والانقطاع. وتدليس التَّسوية من الوليد. والكتابة. وجهالة الكاتب. والاضطراب في لفظه. والإدراج. وثُبوت ما يُخالفه عن صحابيه. ومُخَالفته لما رواه عدد التواتر. قال الحافظ أبو الفضل العراقي: وقول ابن الجوزي: إنَّ الأئمة اتفقوا على صحَّته فيه نظر، فهذا الشَّافعي والدَّارقطني والبَيْهقي وابن عبد البر لا يَقُولون بصحته، أفلا يقدح كلام هؤلاء في الاتِّفاق الَّذي نقله. وقد تُطلق العِلَّة على غير مُقتضاها الَّذي قدَّمناه، كَكذبِ الرَّاوي، وغَفْلته، وسُوءٍ حِفْظه، ونَحْوها من أسْبَابِ ضعف الحديث، وسَمَّى التِّرمذيُّ النَّسخ عِلَّة، وأطلقَ بعضهم العِلَّة على مُخَالفة لا تَقْدحُ، كإرْسَال ما وصله الثِّقة الضَّابط، حتَّى قال: من الصَّحيح صحيح مُعلَّل، كما قيلَ: منهُ صحيحٌ شَاذٌّ. وقد تُطلق العِلَّة على غير مُقتضاها الَّذي قدمناه من الأسباب القادحة ككذب الرَّاوي، وغفلته، وسُوء حفظه، ونحوها من أسباب ضعف الحديث وذلك موجود في كُتب العِلل. وسمَّى الترمذي النَّسخ عِلَّة. قال العِرَاقيُّ: فإن أراد به عِلَّة في العمل بالحديث فصحيح، أو في صحته فلا، لأنَّ في الصَّحيح أحاديث كثيرة منسوخة. وأطلقَ بعضهم العِلَّة على مُخَالفة لا تقدح في صحة الحديث، كإرسال ما وصله الثِّقة الضَّابط حتَّى قال: من الصَّحيح صحيحٌ مُعلَّل، كما قيل: منه صحيح شاذ. وقائل ذلك أبو يَعْلى الخليلي في «الإرْشَاد». ومثَّل الصَّحيح المُعلَّل بحديث مالك: «للمَمْلوك طَعَامه...». السَّابق في نوع المُعضل، فإنَّه أورده في «الموطأ» مُعضلاً، ورواه عنه إبراهيم بن طَهْمان والنُّعمان بن عبد السَّلام موصولاً. قال: فقد صار الحديث بتبيين الإسناد صحيحًا يُعتمد عليه. قيلَ: وذلكَ عكس المُعلَّل، فإنَّه ما ظاهره السَّلامة فاطُّلع فيه بعد الفحص على قادح، وهذا كان ظاهره الإعْلال بالإعْضَال، فلمَّا فُتش تبين وصله.
فائدة: قال البَلْقيني: أجل كِتَاب صُنِّف في العلل كتاب ابن المَديني، وابن أبي حاتم، والخَلاَّل، وأجمعها كتاب الدَّارقُطْني. قلتُ: وقد صنَّف شيخ الإسلام فيه «الزهر المطول في الخبر المعلول». وقد قسم الحاكم في «علوم الحديث» أجناس المُعلَّل إلى عشرة، ونحن نلخصها هنا بأمثلتها: أحدها: أن يَكُون السَّند ظاهر الصِّحة، وفيه من لا يُعرف بالسَّماع ممَّن روى عنه. كحديث مُوسى بن عُقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جَلسَ مَجْلسًا، فكثُر فيه لغطهُ، فقال قبل أن يَقُوم: سُبْحانكَ اللهمَّ وبحَمْدكَ، لا إلهَ إلاَّ أنتَ، أسْتَغفركَ وأتُوب إليكَ، غُفر لهُ ما كانَ في مَجْلسهِ ذلكَ». فرُوي أنَّ مُسْلمًا جَاء إلى البُخَاري وسألهُ عنه، فقال: هذا حديث مليح، إلاَّ أنَّه معلول، حدَّثنا به موسى بن إسماعيل، حدَّثنا وُهيب، حدَّثنا سُهيل، عن عون بن عبد الله قوله، وهذا أولى، لأنَّه لا يُذكر لمُوسى بن عُقْبة سماع من سُهيل. الثاني: أن يَكُون الحديث مُرْسلاً من وجه، رواه الثِّقات الحُفَّاظ، ويُسْند من وجه ظاهره الصِّحة. كحديث: قَبِيصة بن عُقْبة، عن سُفيان، عن خالد الحَذَّاء وعاصم، عن أبي قِلابة، عن أنس مرفوعًا: «أرْحَم أمَّتي بأُمَّتي أبو بكر، وأشَدُّهُم في دين الله عُمر...» الحديث. قال: فلو صحَّ إسناده لأُخرج في الصَّحيح، إنَّما روى خالد الحذَّاء عن أبي قِلابة مُرْسلاً. الثَّالث: أن يَكُون الحديث محفُوظًا عن صحابي، ويروى عن غيره، لاختلاف بلاد رُواته، كرواية المَدنيين عن الكُوفيين. كحديث مُوسى بن عُقبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدة، عن أبيه مرفوعًا: «إنِّي لأسْتَغفرُ الله وأتُوب إليه في اليَوْمِ مئة مَرَّة». قال: هذا إسْناد لا ينظر فيه حديثي إلاَّ ظن أنَّه من شرط الصَّحيح، والمَدَنيون إذا رووا عن الكُوفيين زلقُوا، وإنَّما الحديث محفوظ من رِوَاية أبي بُرْدة عن الأغر المُزَني. الرَّابع: أن يَكُون محفُوظًا عن صحابي، فيروي عن تابعي، يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحَّتهُ، بل ولا يكون مَعْروفًا من جهته. كحديث زُهير بن مُحمَّد، عن عُثمان بن سُليمان، عن أبيه: أنَّه سَمِعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المَغْرب بالطُّور. قال: أخرج العَسْكري وغيره هذا الحديث في «الوحدان»، وهو مَعْلُول، أبو عُثمان لم يسمع من النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا رآه، وعثمان إنَّما رواه عن نافع بن جُبير بن مُطعم، عن أبيه، وإنَّما هو عُثمان بن أبي سُليمان. الخامس: أن يكُون رُوِي بالعنعنة، وسقط منه رجل دلَّ عليه طريق أخرى محفوظة. كحديث يُونس، عن ابن شهاب، عن علي بن الحُسين، عن رجل من الأنصار: أنَّهم كانُوا مع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلة، فرُمي بنجم فاستنار... الحديث. قال: وعِلَّته: أنَّ يُونس مع جلالته قصر به، وإنَّما هو عن ابن عبَّاس، حدَّثني رجال، هكذا رواه ابن عُيينة وشُعيب وصالح والأوزاعي وغيرهم عن الزُّهْري. السَّادس: أن يختلف على رجل بالإسْنَاد وغيره، ويكُون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد. كحديث علي بن الحُسين بن واقد، عن أبيه، عن عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه، عن عُمر بن الخَطَّاب قال: قلتُ: يا رَسُول الله ما لك أفصحنا... الحديث. قال: وعلَّته ما أُسند عن علي بن خَشْرَم، حدَّثنا علي بن الحُسين بن واقد، بلغني أنَّ عمر، فذكره. السَّابع: الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله. كحديث الزُّهْري، عن سُفيان الثَّوري، عن حجَّاج بن فُرَافصة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا: «المُؤمنُ غِرٌّ كريمٌ، والفَاجرُ خِبٌّ لئيمٌ». قال: وعلَّته ما أُسند عن محمَّد بن كثير، حدَّثنا سُفيان، عن حَجَّاج، عن رجل، عن أبي سَلَمة فذكره. الثَّامن: أن يكُون الرَّاوي عن شخص أدركهُ وسَمعَ منهُ، لكنَّه لم يسمع منهُ أحاديث مُعينة، فإذا رواها عنه بلا واسطة فعلَّتها أنَّه لم يسمعها منه. كحديث يحيى بن أبي كثير، عن أنس: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أفْطر عندَ أهل بيت قال: «أفطرَ عندكُم الصَّائمون...» الحديث. قال: فيحيى رأى أنَسًا وظهر من غير وجه أنَّه لم يسمع منه هذا الحديث، ثمَّ أُسند عن يحيى قال: حُدِّثتُ عن أنس فذكرهُ. التاسع: أن تكون طريقه معروفة، يروي أحد رجالها حديثا من غير تلك الطريق، فيقع من رواه من تلك الطريق بناء على الجادة في الوهم. كحديث المُنذر بن عبد الله الحِزَامي، عن عبد العزيز بن المَاجشُون، عن عبد الله دينار، عن ابن عُمر: أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتحَ الصَّلاة قال: «سُبحانكَ اللهمَّ...» الحديث. قال: أخذ فيه المُنذر طريق الجَادة، وإنَّما هو من حديث عبد العزيز، حدَّثنا عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن عُبيد الله بن أبي رافع، عن علي. العاشر: أن يُروى الحديث مرفوعًا من وجه، وموقوفًا من وجه. كحديث أبي فَرْوة يزيد بن محمَّد، حدثنا أبي، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي سُفيان، عن جابر مرفوعًا: «من ضَحِكَ في صَلاتهِ، يُعيد الصَّلاة ولا يُعيد الوضُوء». قال: وعلَّته ما أسند وكيع، عن الأعمش، عن أبي سُفيان قال: سُئل جابر فذكره. قال الحاكم: وبَقِيت أجْنَاسٌ لم نذكرها، وإنَّما جعلنا هذه مِثَالاً لأحاديث كثيرة. وما ذكرهُ الحاكم من الأجْنَاس يَشْملهُ القِسْمان المذكُوران فيما تقدَّم، وإنَّما ذكرناهُ تمرينًا للطَّالب وإيضَاحًا لما تقدَّم.
هُو الَّذي يُروى على أوجهٍ مُخْتلفةٍ مُتَقَاربة، فإن رُجِّحت إحدى الرِّوايتين بحفظ راويها، أو كثرةِ صُحْبته المَرْوي عنه، أو غير ذلك، فالحُكم للرَّاجحة، ولا يَكُون مُضْطربًا، والاضْطراب يُوجب ضَعْف الحديث، لإشْعَاره بعدم الضَّبط، ويقع في الإسْنَاد تارةً، وفي المَتْن أُخرى، وفيهما من رَاوٍ أو جَمَاعة. النَّوع التاسع عشر: المُضْطرب. هو الَّذي يُروى على أوجه مُختلفة من راوٍ واحد مرَّتين أو أكثر، أو من راويين، أو رواة متقاربة وعِبَارة ابن الصَّلاح: مُتساوية. وعبارة ابن جماعة: مُتقاومة بالواو والميم، أي ولا مرجح. فإن رُجِّحت إحدى الروايتين أو الرِّوايات بحفظ راويها مثلاً أو كثرة صُحبته المروى عنه، أو غير ذلك من وجُوه الترجيحات فالحُكم للرَّاجحة، ولا يَكُون الحديث مُضطربًا لا الرِّواية الرَّاجحة كما هو ظاهر، ولا المرجوحة، بل هي شاذة أو منكرة كما تقدَّم. والاضْطراب يُوجب ضَعْف الحديث، لإشْعَاره بعدم الضَّبط من رُواته، الَّذي هو شرط في الصحَّة والحُسْن. ويقع الاضطراب في الإسْنَاد تارةً، وفي المَتْن أُخرى، و يقع فيهما أي: الإسْنَاد والمَتْن معًا، وهذه مزيدة على ابن الصَّلاح من راو واحد أو راويين أو جماعة. مثاله في الإسْنَاد: ما رواهُ أبو داود وابن ماجه من طريق إسْمَاعيل بن أُمية، عن أبي عَمرو بن مُحمَّد بن حُرَيث، عن جَدِّه حُريث، عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا: «إذَا صلَّى أحدكُم فليَجْعل شيئًا تِلْقاء وجهه...» الحديث وفيه: «فإن لم يَجْد عصًا ينصبها بينَ يديهِ، فليَخُطَّ خطًّا». اختُلف فيه على إسماعيل اختلافًا كثيرًا: فرواهُ بِشْر بن المُفضَّل وروح بن القَاسم عنه هكذا. ورواه سُفيان الثَّوري عنهُ عن أبي عَمرو بن حُريث، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرة. ورواهُ حُميد بن الأسْود عنه، عن أبي عَمرو بن محمَّد بن عَمرو، عن جدِّه حُريث بن سُليم، عن أبي هُرَيْرة. ورواهُ وُهيب بن خالد وعبد الوارث عنهُ، عن أبي عَمرو بن حُريث، عن جده حُريث. ورواه ابن جُريج عنه، عن حُريث بن عمَّار، عن أبي هُرَيْرة. ورواه ذوَّاد بن عُلْبة الحَارثي عنه، عن أبي عَمرو بن مُحمَّد عن جدِّه حُرَيث بن سُليمان. قال أبو زرعة الدِّمشقي: لا أعلم أحدًا بيَّنه وبيَّن نسبه غير ذوَّاد. ورواه سُفيان بن عُيينة عنه، واختلف فيه على ابن عيينة: فقال ابن المَدِيني: عن ابن عُيينة، عن إسماعيل، عن أبي محمَّد بن عمرو بن حُرَيث، عن جدِّه حُرَيث رجل من بني عُذْرة. ورواه محمد بن سلاَّم البيكندي، عن ابن عُيينة، مثل رواية بِشْر بن المُفَضَّل وروح. ورواهُ مُسَدَّد، عن ابن عُيينة عن إسْمَاعيل، عن أبي عَمرو بن حُرَيث، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرة. ورواهُ عمَّار بن خالد الوَاسطي، عن ابن عُيينة عن إسْمَاعيل عن أبي عَمرو ابن محمَّد بن عَمرو بن حُرَيث، عن جدِّه حُرَيث بن سُلَيم هكذا. مثَّل ابن الصَّلاح بهذا الحديث لمضطرب الإسناد. وقال العِرَاقيُّ: في «النكت»: اعتُرض عليه بأنَّه ذكر أنَّ الترجيح إذا وُجِدَ انتفى الاضْطراب، وقد رواهُ سُفيان الثَّوري، وهو أحفظ مِمَّن ذكرهم، فينبغي أن ترجح رِوَايته على غيرها، وأيضًا، فإنَّ الحاكم وغيره صحَّحوا هذا الحديث. قال: والجَوَاب: أنَّ وجُوه التَّرجيح فيه مُتعارضة، فسُفيان وإن كان أحفظ، إلاَّ أنَّهُ انفردَ بقولهِ: أبي عَمرو بن حريث عن أبيه، وأكثر الرُّواة يَقُولون: عن جدِّه، وهم: بِشْر، ورُوح، ووُهَيب، وعبد الوارث، وهُم من ثِقَات البَصْريين وأئمتهم، ووافقهم على ذلكَ من حُفَّاظ الكُوفة: ابن عُيينة، وقولهم أرْجَح للكَثْرة، ولأنَّ إسماعيل بن أُمية مَكِّي، وابن عُيينة كان مُقيمًا بها، والأمران مِمَّا يرجح به، وخالف الكل ابن جُريج، وهو مَكِّي، فتعارضت حينئذ وجوه التَّرجيح، وانضمَّ إلى ذلكَ جَهَالة راوي الحديث، وهو شيخُ إسْمَاعيل، فإنَّه لم يرو عنهُ غيره، مع الاختلاف في اسمهِ واسم أبيه، وهل يرويه عن أبيه، أو جده، أو هو نفسه، عن أبي هُرَيْرة. وقد حَكَى أبو داود تضعيف هذا الحديث عن ابن عُيينة فقال عنه: لم نجد شيئًا نشد به هذا الحديث، ولم يجيء إلاَّ من هذا الوجه، وضعَّفهُ أيضًا الشَّافعي، والبَيْهقي، والنَّووي في «الخُلاصة». انتهى. وقال شيخُ الإسْلام: أتقن هذه الرِّوَايات: رِوَاية بِشْر وروح، وأجمعها رِوَاية حُميد بن الأسْود، ومن قال: أبو عَمرو بن مُحمَّد أرجح مِمَّن قال: أبو محمَّد بن عَمرو، فإنَّ رُواة الأوَّل أكثر، وقد اضْطَربَ من قال: أبو مُحمَّد، فمَرَّة وافق الأكثرين، فتلاشى الخلاف. قال: والَّتي لا يُمكن الجمع بينها رِوَاية من قال: أبو عَمرو بن حُرَيث، مع رِوَاية من قال: أبو محمَّد بن عَمرو بن حُريث، ورِوَاية من قال: حُرَيث بن عمَّار، وما في الرِّوَايات يمكن الجمعُ بينها، فرِوَاية من قال: عن جدِّه لا تُنَافي من قال: عن أبيه، لأنَّ غايتهُ أنَّه أسقطَ الأب، فتبيَّن المُرَاد برواية غيره، ورِوَاية من قال: عن أبي عَمرو بن مُحمَّد بن عَمرو بن حُريث يدخل في الأثناء عَمْرًا، لا تُنَافي من أسْقَطه، لأنَّهم يكثرون نسبة الشَّخص إلى جدِّه المشهور، ومن قال: سليم، يمكن أن يكون اختصره من سليمان كالترخيم. قال: والحق أنَّ التَّمثيل لا يليق إلاَّ بحديث لولا الاضْطراب لم يضعف، وهذا الحديث لا يَصْلح مِثَالاً، فإنَّهم اختلفُوا في ذاتٍ واحدة، فإن كان ثقة لم يضر هذا الاختلاف في اسمه أو نسبه، وقد وجد مثل ذلك في الصَّحيح، ولهذا صحَّحه ابن حبَّان، لأنَّه عندهُ ثقة، ورجَّح أحد الأقوال في اسْمهِ واسم أبيه، وإن لم يَكُن ثقة، فالضَّعف حاصل بغير جهة الاضْطراب، نعم يَزْداد به ضَعْفًا. قال: ومثل هذا يدخُل في المُضْطرب لِكَوْن رُواته اختلفُوا، ولا مُرجِّح، وهو وارد على قولهم الاضْطراب يُوجب الضعف. قال: والمثال الصَّحيح حديث أبي بكر أنَّه قال: يا رَسُول الله أراكَ شِبْتَ؟ قال: «شَيَبتني هُودٌ وأخَوَاتها». قال الدَّارقُطْني: هذا مُضْطرب، فإنَّه لم يرو إلاَّ من طريق أبي إسْحَاق، وقد اختُلف عليه فيه على نحو عَشْرة أوجه: فمنهم من رواهُ مُرْسلا. ومنهم من رواهُ موصُولا. ومنهم من جعلهُ من مُسْند أبي بكر. ومنهم من جعلهُ من مُسند سَعْد. ومنهم من جعلهُ من مُسْند عائشة، وغير ذلك، ورُواته ثِقَات لا يُمْكن ترجيح بعضهُم على بعض والجمع متعذر. قلت: ومثله حديث مُجَاهد، عن الحكم بن سُفيان، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في نَضْح الفَرْج بعد الوضُوء. قد اخْتُلِفَ فيه على عَشْرة أقْوَال: فقيل: عن مُجَاهد عن الحَكَم، أو ابن الحكم عن أبيه. وقيل: عن مُجَاهد عن الحكم بن سُفيان عن أبيه. وقيل: عن مُجَاهد عن الحكم غير منسُوب عن أبيه. وقيل: عن مُجَاهد عن رجُل من ثقيف عن أبيه. وقيل: عن مُجَاهد عن سُفيان بن الحكم، أو الحكم بن سُفيان. وقيل: عن مُجَاهد عن الحكم بن سُفيان بلا شك. وقيل: عن مُجَاهد عن رجُل من ثقيف يقال له الحكم، أو أبو الحكم. وقيل: عن مُجَاهد عن أبي الحكم، أو أبي الحكم بن سُفيان. وقيل: عن مُجَاهد عن الحكم بن سفيان، أو ابن أبي سفيان. وقيل: عن مُجَاهد عن رجل من ثقيف عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. ومثال الاضْطراب في المَتْن فيما أوردهُ العِرَاقي حديث فاطمة بنت قيس قالت: سُئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الزَّكاة، فقال: «إنَّ في المَالِ لحقًّا سِوَى الزَّكاة». رواه الترمذي هكذا من رواية شَرِيك، عن أبي حمزة، عن الشَّعبي، عن فاطمة، ورواه ابن مَاجه من هذا الوجه بلفظ: «ليسَ في المَالِ حَق سِوَى الزَّكَاة». قال: فهذا اضْطَراب لا يحتمل التأويل. قيل: وهذا أيضًا لا يصلح مِثَالاً، فإنَّ شيخ شَرِيك ضعيف، فهو مردود من قِبَل ضَعْف راويه، لا من قِبَل اضْطِرابه، وأيضًا فيُمكن تأويله بأنَّها روت كلا من اللَّفظين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ المُرَاد بالحقِّ المُثبت المُسْتحب وبالمَنْفي الواجب. والمِثالُ الصَّحيح ما وقع في حديث الواهبة نفسها من الاختلاف في اللَّفظة الواقعة منهُ صلى الله عليه وسلم. ففي رِوَاية: «زوجْتُكها». وفي رِوَاية: «زوجْنَاكها». وفي رواية: «أمْكَناكها». وفي رواية: «ملكتُكَها». فهذه ألفاظٌ لا يمكن الاحتجاج بواحد منها، حتَّى لو احتجَّ حنفي مثلا، على أنَّ التمليك من ألفاظ النِّكَاح لم يسغ له ذلك. قلتُ: وفي التمثيل بهذا نظر أوضح من الأوَّل، فإنَّ الحديث صحيحٌ ثابت، وتأويل هذه الألفاظ سهل، فإنَّها راجعة إلى معنى واحد، بخلاف الحديث السابق. وعندي أنَّ أحسن مثال لذلك حديث البسملة السَّابق، فإن ابن عبد البر أعلَّه بالاضطراب كما تقدَّم، والمُضطرب يجامع المعلل، لأنَّه قد تكون علَّته ذلك.
تنبيه: وقع في كلام شيخ الإسْلام السَّابق: أنَّ الاضْطراب قد يُجامع الصِّحة، وذلك بأن يقع الاختلاف في اسم رجُل واحد، وأبيه، ونسبته، ونحو ذلك، ويكون ثقة، فيُحكم للحديث بالصحة ولا يضر الاختلاف فيما ذكرَ مع تسميتهِ مُضْطربًا، وفي الصَّحيحين أحاديث كثيرة بهذه المَثَابة، وكذا جزم الزَّركشي بذلك في مُختصره فقال: قد يدخل القَلْب والشُّذوذ والاضْطراب في قِسْم الصَّحيح والحسن.
فائدة: صنَّف شيخ الإسْلام في المُضْطرب كِتَابًا سَمَّاهُ «المقترب».
|